فصل: باب: قتل الصيد عمداً كان أو خطأً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: قتل الصيد عمداً كان أو خطأً:

2791- الاصطياد من صيد البر حرام، على المحرم، والأصل فيه قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. والعامد يَختصّ بالمأثم، والضمان يعم العامدَ والخاطئ عندنا، وعند معظم العلماء، وخصص داود الضمانَ بالعامد، تعلّقاً بظاهر القرآن، وفيه على مذهب الشافعي-ومذهبُهُ القولُ بالمفهوم- إشكالٌ، ولكن الوجه أن الرب تعالى لما أراد الجمعَ بين الضمانِ، والمأثَمِ، والتعرضِ للعقوبة، خصص سياق الآية بالعامد، أما الضمان، فلائح واستشعار العقاب في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95].
ثم الصيد ينقسم إلى البحري والبري، فأما البحري، فلا حرج على المحرم فيه، وكان شيخي يقول: هذا قولنا في سمكة يصادفها في ماءٍ في الحرم.
وأما الصيد البرّي فينقسم إلى الطائر، وغيره، أما الطائر، ففيه بابٌ يأتي، وأما غيرُه، فينبغي أن يكون مأكولاً، وهو المحرّم بسبب الإحرام والحرم، والحيوان المتولد من بين المأكول وغيره محرم تغليباً للحرمة، وفيه الجزاء تغليباً للفدية، فالأمر في الحكمين على التغليظ.
ثم نجمع معاقد المذهب في فصول: منها في جهات الضمان، ومنها في صفة الضمان وتفصيلِ الواجب، ومنها في الجنايات.
2792- فأما جهات الضمان، فثلاث: المباشرة بالجناية، والسبب، واليد العادية.
فأما المباشرة فبيّنةٌ.
والسببُ هو كلّ ما يكون المتسبب به متعدياً، كحفر البئر في محل العدوان، ويمكن ضبط هذا بما يُضمَن الآدمي به، فلو حفر المحرم بئراً في ملكه أو في موات، فتردّى فيها صيدٌ، فلا ضمان؛ إذ لا عدوان، ولو حفر في ملكه في الحرم بئراً، فتردى فيها صيدٌ، ففي الضمان وجهان: أشهرهما- الوجوب، لأن السبب في إيجاب الضمان في الصيد الحرميّ حرمةُ الحرم، وهذا المعنى يعم الملكَ وغيرَه.
والثاني: لا يجب اعتباراً بالصيد في حق المحرم.
ولو نصب المحرم شبكةً في ملكه، أو في مواتٍ، فقد ردد الصيدلاني جوابه فيها، والذي أظهر نقلَه أنه إذا تعقّد صيد بالشبكة، وجب الضمان، وإن كانت منصوبة في الملك؛ لأن نصب الشبكة مقصودٌ للاصطياد، فكأن ناصبَه مجرِّداً قصدَه إلى الاصطياد، فكان كما لو اصطاد بيده صيداً في ملكه. قال: ويحتمل أن تكون الشبكة في معنى البئر؛ فإن البئر لو احتفرت في محل العدوان، كانت سبب الضمان كالشبكة، وإذا كان من غير عدوان، فلا ضمان. وهذا قياسٌ متجه.
2793- وأما اليد، فهي سبب الضمان، فإذا أثبت المحرم يدَه على الصيد ابتداءً في الإحرام، فهلك الصيد تحت يده، ضمنه، كما يضمن الغاصب ما تثبت عليه يده، وتمام القول في اليد الدائمة، التي طرأ الإحرام عليها يأتي في فصلٍ معقود بعد هذا.
فهذه قواعد أسباب الضمان.
2794- فأما الدّلالة على الصيد، فليست مضمِّنةً عندنا، خلافاً لأبي حنيفة وضبطُ المذهب من جهة المعنى أن الصيد لله تعالى، وهو مالك الأعيان، وقد حجر على المحرم فيه، فيضمنُه المحرم بما يضمن به ملكَ الغير؛ إذ لم يكن مستحقه، ومن دل على ملك غيره، لم يضمن بالدلالة شيئاً، وإنما يضمن ملك الغير بالأسباب التي ذكرناها.
2795- فأما جُمَل القول في المضمون الواجب، فنص القرآن شاهدٌ على إيجاب المثل قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95]، والمراد به إيجاب النَّعَم المشابهة في الخلق والصوَر، للمتلفات من الصيود.
ثم كل ما وجدنا فيه نصَّ خبرٍ أو قضاء للصحابة، اتبعناه، وما لم نجد فيه نصاً وقضاء، طلبنا مماثلة الخلقة بالاجتهاد، كما سنصفه.
أما مواقع النصوص والأقضية، ففي حمار الوحش بقرةٌ، وفي الضبع كبش.
رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأرنب عَناقٌ، وفي أم حُبَيْن حُلاّن وهو جدي صغير. وكان شيخي يقول: أم حبين من صغار الضب، حتى يفرضَ مأكولاً. أما الظبي ففيه عنز. وفي طرق العراق في الظبي كبشٌ، وفي الغزال عنز. وهذا وهم؛ فالذي صح القضاء فيه في الظبي العنز، وهو شديد الشبه به؛ فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب، والغزال ولد الظبي، فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس على ما سنصفه.
فهذا قولنا في محالّ الأقضية.
2796- فأما ما لا نص فيه، فالوجه طلب المثلية الخِلقية، بالنظر والاجتهاد، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
ثم شرط الأئمة صَدَر الإلحاق الشبهي عن رجلين، كما أشعر به النص، وهذا محتوم، ليس على الاستحباب، وليكن الناظران عدلين خيّرين، من أصحاب الكياسة، فيما يتعلق بهذا الغرض. ولو حكم عدلٌ بالشبه، وحكم به القاتل المحرِم، فحكمه غيرُ مقبول، لخروجه عن نعت العدالة. هذا إذا قتل عمداً.
فإن كان خطأ لم يعصِ بما جرى منه، ففي المسألة وجهان: أقيسهما أنه لا يقبل حكمه؛ لأنه محكوم عليه، فليكن الحاكم غيره. والوجه الثاني- وهو ظاهر المذهب أنه يقبل حكمه، والدليل عليه ما روي: "أن عمر رضي الله عنه، شاور بعضَ الصحابة في صيد كان قتله، فقال المستشار: أرى فيه شاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك".
ثم في الصغار من كل جنس صغار الجنس من النَّعم التي تثبت كبارها في الكبار، والمعيب يقابل المعيب، وتقبل العوراء في العوراء، وهكذا كل عيب، ولا نسلك طريق جبران العيب بعيب آخر، وإن قرب الأمر، فلا تقبل عوراء في جَرِب. وهكذا القول في العيوب المختلفة.
2797- ومما يتعين الاعتناء به في هذا الفصل: الكلام في الإناث والذكور، والحامل والحائل: فإذا أتلف المحرم ذكراً من جنسٍ من الصيد، فإن قابله بذكبر من النّعم، فذاك، وإن قابله بأنثى، اختلف النص في إجزاء ذلك.
والذي نراه ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتُها دون قيمة الذكر من النَّعم، فلا تُجزىء. وإن آل الأمر إلى ذبح النَّعم كما سنصفه، وكانت الأنثى خبيثة اللحم؛ لأنها وَلَدَت، فلا تجزئ، لاجتماع المخالفة في الخلقة، والنقصان، في القيمة، والرداءة في اللحم. وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت، تامّة القيمة إذا قوّمت للتعديل-كما سنذكره- فهل تجزئ عن الذكر؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قال: قولان:
أحدهما: أنها لا تجزئ للاختلاف في الخلقة، والثاني: أنها تجزىء، وهو الأصح؛ فإن هذا القدر محتمل في التفاوت.
ومن أصحابنا من قال: اختلاف النص محمول على ما أشرنا إليه، فحيث مَنَع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة، أو معيبةَ اللحم، وحيث جوّز أراد إذا كانت مساويةً للذكر من النَّعم في القيمة، وطيب اللحم، أو كانت أفضل منه.
وأما القول في الزكاة، فمتعلق بطرف صالحٍ من التعبد، وقد مضى تفصيل القول في أخذ الذكور والإناث في الزكاة.
ولو أتلف المحرم ظبية، فإن أخرج الأنثى أجزأت، لمشابهة الخِلقة، وإن أخرج الذكر، فإن كان الذكر دون الأنثى، فلا إجزاء، وإن كان مثلَها، أو أفضلَ منها، فعلى ما ذكرنا من اختلاف الطرق.
وذكر الشيخ أبو بكر وغيرُه أن مقابلة الأنثى بالأنثى واجبةٌ، والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى. وهذا ذهاب عن التحصيل، وهو يبتني على اعتقاد كون الأنثى أفضلَ، والأمر مختلف في ذلك، والمتبع ما ذكرناه من الفضيلة، ورعاية الخلقة، ويستوي فيه مقابلة الذكر بالأنثى، ومقابلة الأنثى بالذكر.
فهذا قولنا في الذكور والإناث.
2798- فأما إذا قتل المحرم ظبية حاملاً، فهذا مما اختبط فيه الأصحاب، وردوا الأمر إلى اضطرابٍ لا أصل له.
وأنا أذكر ما هو الحق المبتوت: فإذا كانت الظبية المتلَفةُ حاملاً، فلو قابلناها بحائل من النعم، كان ذلك مخالفةً في الخلقة، فالحامل من النعم أفضل في القيمة من الحائل منها، ولكن لا سبيل إلى ذبح الحامل من النَّعم؛ فإن مرتبتها في القيمة تزول بالذبح. ولو أخرج حائلاً نفيسة تبلغ قيمتُها قيمةَ حامل مقتصدة، فالتفاوت في الخلقة لائح، وهذا فوق الذكورة والأنوثة، فلا وجه إلا تقديرُ حامل من النَّعم؛ ثم الرجوع إلى قيمتها، وتعديلُ الطعام بها.
فهذا هو الوجه، وهو الذي اختاره أئمة العراق.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لو أخرج حائلاً نفيسةً، كما صورناها، وذبحها، أجزأت؛ تخريجاً على إخراج الأنثى عن الذكر. وهذا بعيدٌ؛ فإن الحَمْل إذا تحقق زيادةٌ في الخلقة معتبرة.
فهذا بيانُ القول في الحامل والحائل، والذكر والأنثى.
ولو جنى على ظبيةٍ حامل، فألقت جنينَها، فإن بقيت الأم، وألقت الجنين حيّاً، ثم مات، ففي الجنين صغيرٌ من النَّعم، على قدرٌ يقرب منه. وإن ألقته ميتاً، فلا يُضمن الجنين في نفسه، ولكن يجب ما تنقصه الجناية من الأم. وإن ماتت الأم، ومات الجنين بعد انفصاله، ضمن كلَّ واحدٍ على حياله.
2799- فأما القول في الجناية على الصيد من غير إهلاك، فقد قال الشافعي، فيما نقله المزني: إن جَرح ظبياً، فنقص من قيمته العشر، فعليه العشر من ثمن شاة. قال المزني: الوجه أن نقول عليه عشرُ شاة، جرياً على رعاية المثلية.
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من صوّب المزني، وقال: هو المذهب لا غير، وحمل نص الشافعي على الإرشاد إلى الانتقال من الشاة، إلى تعديل الطعام بالقيمة؛ فإن الكفارة على التخيير، وإخراج قسط من الحيوان عسير، وإلا، فهو الأصل.
ومن أصحابنا من جرى على ظاهر النص، ولم يوجب قسطاً من الحيوان بسبب الجناية على الصيد، وجعل ما يدخل على الصيد من نقصٍ، بمثابة ما يدخل على المثليات من النقص، بسبب الجناية عليها، فإذا جنى رجل على حِنطة إنسان جنايةً تنقُص من قيمتها، فلا يلزمه إلا القيمة، وإن كانت الحنطة في نفسها مضمونةً بالمثل إذا أتلفت، فكذلك القول في الصيد إذا أتلف، فهو مقابَلٌ بالمثل، وإن أثرت الجناية في صفته، لم يجب جزء من المثل.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ فإن مقتضاها إيجاب قسط من قيمة الظبية؛ فإن من جنى على حنطة إنسان وعيَّبها، فالمضمون أرش نقص الحنطة المجني عليها.
فرع:
2800- إذا جنى على صيدٍ، فَأَزْمَنَه، وأذهب امتناعَه، بحيث لا يرجى عودُه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه يجب بإزالة امتناعه تمامُ الجزاء، كما يجب بقطع يدي العبد تمامُ قيمته.
وذهب بعض أصحابنا إلى وجه غريب، وهو أن الواجب قسطٌ من المثل، أو قيمة المثل. وهذا مزيّف متروكٌ. فلو أتلف الصيدَ المزمَنَ محرم آخر، فيلزمه جزاؤه على ما هو عليه من العيب. وقد قدمنا أن المعيب يضمن بمثله.
ولو كان للصيد امتناعان، كالنعامة تمتنع بشدة العدْو، ولها امتناع من الجناح بالطيران، فإذا أبطل المحرم أحد امتناعيه، والتفريع على ظاهر المذهب، وهو أن إزالة الامتناع توجب تمام الجزاء، ففي هذه الصورة، وهي إزالة أحد الامتناعين وجهان: ذكرهما العراقيون.
ولو أزال المحرم امتناع صيدٍ على وجهٍ لا يعود، ثم قتله، فالتفصيل فيه كالتفصيل فيما إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم احتز رقبته قبل اندمال الجرح، المنصوصُ اتحاد الدية. وخرّج ابن سريج انفراد أروش الأطراف عن دية النفس، وذلك الترتيب يعود هاهنا. ثم من لم يكمل الأرش في أحد الامتناعين في النعامة، فالغالب على الظن أنه يعتبر ما نقص. وفي الحقيقة الامتناعُ في النعامة واحد ولكنه يتعلق بالرجل والجناح، ولا ضبط. فالوجه في زوال بعض الامتناع إيجاب ما ينقص.
فرع:
2801- إذا أمسك المحرم صيداً، فقتله مُحِلٌّ في يده، فالضمان كلّه على المحرم؛ فإنَّ فِعْل الحلال في الصيد غيرُ مضمونٍ، فيجعل ما جرى كالتلف بآفة سماوية.
ولو أمسك المحرم الصيد، فقتله محرم آخر في يده، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يجب تمامُ الضمان على القاتل؛ فإنا إذا كنا نقدم المباشرة على السبب، فلأن نقدم الإتلاف على اليد أولى.
ومن أصحابنا من قال: الضمان بينهما، وهذا بعيد، لا وجه له. نعم الوجه أن يقال: قرار الضمان على المتلِف والطَّلِبَةُ تتوجه على الممسك. وقد ذكرنا قريباً من ذلك في تفاصيل الحلق.
فصل:
2802- إذا كنا نعتبر المِثْل بالاجتهاد، نظراً إلى الشبه الخِلْقي، فلا تعلق لهذا بمكانٍ، وإن آل الأمر إلى اعتبار القيمة، فكيف السبيل؟ والمرعي أيّةُ قيمة؟ أولاً نذكر صفة الجزاء، ومحلَّه، ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه.
فإن كان الجزاء منصوصاً عليه في خبر أو قضاء، فهو متبع، وإلا نقيسه.
2803- ثم الكفارة على التخيير. ذهب إليه معظم الأصحاب، وأشعر به نص القرآن.
ثم للجزاء ثلاثة أركان: أحدها: الحيوان.
والثاني: الإطعام. والثالث: الصوم المعدّل بالإطعام.
أما الحيوان، فالمعتبر فيه اتباع التوقيف، أو النظرُ فيما لا توقيف فيه إلى الشبه الخِلقي.
وأما الإطعام، فهو معتبر بقيمة المثل، لا بقيمةِ الصيد، فيقوّم المثلُ المنصوصُ، أو المجتهَدُ بالدراهم، ولا نرى التصدّق بها، بل نصرفُها إلى الطعام المعتبر في صدقة الفطر، والكفارات، فإن أراد التصدق بها، فذاك. وإن أراد الصومَ، قابل كلَّ مدّ بصوم يوم، فإن وقع كسرٌ في مدّ، قابله بصومِ يومٍ. فإن التعطيل غيرُ ممكن، والصومُ لا يتبعّض. ثم المحرم بالخيار بين هذه الخِلال.
وحكى بعض الأصحاب عن أبي ثور أنه نقل عن الشافعي قولاً في الترتيب، وهذا غلط باتفاق الأئمة، مردود على ناقله، مخالفٌ لنص القرآن، ولا يخلِّص منه التعلق بآية المحاربين؛ فإن الظواهر لا تُزال بسبب إزالة ظاهرٍ آخر. نعم، إن انقدح تأويلٌ، واستند إلى دليل، فلا يمنع الاستشهادَ لإبانة إمكان التأويل في اللسان.
2804- وإن كان الصيد غيرَ مقابَل بالمثل كبعض الطيور، فالوجُه اعتبارُ القيمة، وردُّها إلى الإطعام، ثم تقدير الصيام معدَّلاً بالطعام.
وإذا كان المتلف مقوَّماً، فالكفارة فيه ذاتُ ركنين: الطعام، والصيام، والرجوع إلى قيمة المتلف، فإنا عجزنا عن تقدير مثلٍ، حتى نفرض اعتبار قيمته.
2805- فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن كان المحرم الجاني يُخرج الجزاء حيواناً، فمحله الحرم، كما تقدم.
ولا شك أنا لا نشترط فيه صفاتِ الضحايا؛ فإنا إذا كنا نوجب في الصغار صغاراً، وفي المعيبة ما يضاهيها، فلا نلتزم والحالة هذه صفاتِ الضحايا، والشاة لا تجزئ في الضحايا عن شخصين، ولا يتبعض في القرابين غيرُ البُدنِ والبقرِ. وإذا أوجبنا في انجناية على الصيد جزءاً من الحيوان، فسيُخرج الملتزمُ عشرَ شاة، وسبب ذلك كلِّه اتباعُنا المثليةَ، والأشباه الخِلقية. ثم لا يكفي التصدق بالحيوانات المخرجة جزاءً، بل لابد من الذبح. وهذا إذا ضم إلى سقوط اعتبار صفات الضحايا، كان بدْعاً. والأمر كذلك، فالعَنَاق والحُلاّن مذبوحان ذبحَ الكبار، على صفات الهدايا.
وإن أراد المحرم العدولَ إلى الطعام، فالاعتبار بقيمة مكة في المثل؛ فإن المثل لو أخرج، لكان مستحقاً لهم، فالاعتبار عند العدول بقيمة تلك البقعة.
وإن كان الصيد متقوماً في نفسه، لا جزاء له من الحيوانات، فقد قال العراقيون: الاعتبار في قيمته بمكان الإتلاف، نظراً إلى كل متلَف مقوَّم، ثم القيَمة تصرف إلى الطعام، وبعدَه تعديلُ الصيام. وقالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أنا نعتبر قيمة المتلف بسعر مكة، وزعموا أن الصحيح الأول.
وقد قطع المراوزة بأن الاعتبار بقيمة مكة في الصيد المقوّم، ثم كلام العراقيين متردد في التفريع، على ما رواه ظاهر المذهب، فيحتمل عندهم بعد ما عرف مقدار القيمة، نظراً إلى مكان الإتلاف، أن نعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضاًً، ويحتمل أن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف، فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعرُ مكة. وهذا هو الظاهر من كلامهم فيما أظن.
فصل:
2806- المحرم إذا قتل صيداً، فقد اختلف قول الشافعي في أن الصيد الذي ذبحه في مذبحه، أو أثبته بسهم في شروده مَيتةٌ أمْ لا؟ فله قولان:
أحدهما: أنه ميتة، وهو مذهب أبي حنيفة.
وفائدة ذلك تحريمه على الناس كافة في حال الاختيار، وإلحاقه بالميتات.
والقول الثاني- أنه ليس بميتة، ولغير الذابح استحلاله.
التوجيه:
من قال: إنه ميتة، قال: لأنه ممنوع من هذا الذبح لمعنىً فيه، فأشبه المجوسي، والمرتدَّ. ومن قال: ليست ذبيحتُه ميتةً، قال: إنه من أهل الذبح على الجملة، يعني البهائم، ولكن حالَ مالكُ الأعيان بينه وبين الذبح، حَجْراً عليه، كما حجر الشرع على الإنسان ذبح شاةَ الغير.
فإن قلنا: الصيد الذي ذبحه ميتة، فلا كلام، فليجتنبْها المحرم والمُحِل.
وإن قلنا: ذبيحته ليست بمَيْتة، فهي حلال للحرام والحلالِ، إلا أنها محرّمة على المُحرِم الذابح وفاقاً.
2807- ثم يتبين الغرض بتفريعٍ فنقول: إن كان الصيد مباحاً غيرَ مملوك، فإن قَضَيْنا بكونه ميتةً، فلا كلام، وإن خصصنا التحريم بالذابح، فلو تحلل عن إحرامه، فالمذهب الذي قطع به المراوزة أن التحريم لا يزول بزوال الإحرام. وحكى العراقيون سوى ذلك وجهاً آخر: أن التحريم يزول بزوال الإحرام، ثم إنهم زيّفوه. فهذا إذا كان الصيد مباحاً.
2808- فأما إذا كان الصيد مملوكاً، فإن قضينا بأنه يصير ميتة، فالمحرم يضمن قيمته لمالكه، ويلتزم تمام الجزاء، كما يلتزمه في الصيد المباح. وقد ذكرنا أنه لا فرق بين المملوك وبين المباح في الصيد، ولا فرق بين الآنس منه والمتوحش.
وإن قلنا: ذبيحة المحرم ليست ميتة، فعلى المحرم في الصيد المملوك الجزاء لله تعالى، وما ينقصه الذبح للآدمي.
2809- ثم كما يحرُم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي ذبحه، فكذلك يحرم عليه الأكل من كل صيد دلَّ عليه، أو أعان الصائد بوجه على اصطياده. وكذلك لو صاد صائد حلالٌ الصيدَ للمحرم، من غير أمره وإذنه.
والمتبع في ذلك الأخبار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفةٍ من المحرمين: «لحمُ الصيد حلالٌ لكم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم». واصطاد أبو قتادة، وهو حلال، فقدم الصيدَ إلى محرمين، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، فقال: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: طعامٌ أطعمكم الله». وأهدي إلى عثمانَ لحمُ صيدٍ، وهو محرم، فقال لأصحابه: "كلوا؛ فإنه ما صيد لكم"، ولم يأكل. ولا نظن بعثمان رضي الله عنه أن يأمر بالاصطياد، ثم يمتنع عن أكله، فدلت القصة على أن الصائد، كان اصطاد من غير مراجعته.
2810- فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن قتل المحرم صيداً، والتزم جزاءه بالقتل، فلو أكل منه، كان الأكل حراماً، ولا يلزمه بسبب الأكل جزاءٌ آخر، بل يُكتفى بجزاء القتل.
ولو كان دلّ على صيد أو صِيد له، وحرمنا الأكل عليه، فلو أكله، ففي وجوب الجزاء قولان: أصحهما- أن لا جزاء؛ فإن الجزاء في نص الكتاب يتعلق بالجناية على الصيد. والقول الثاني- يجب الجزاء؛ فإنا لم نوجب على من قتل صيداً، والتزم جزاءه بسبب أكله جزاءً جديداً؛ لأن ضمان القتل كافٍ، ولم يوجد في الأكل من الصيد المدلول عليه جزاءٌ يلتزمه المحرم، بسببٍ غير الأكل، فجاز أن يتعلق الضمان بالآكل، كما يتعلق بقتل الصيد المُزْمَن الذي لا حراك به.
وإذا قتل المُحل أو المحرمُ صيداً حرمياً، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرّج القولين في أنه إذا ذبح، فهو ميتة أم لا؟ ومنهم من قطع القول بأنه ميتة؛ لأن المانع في الصيد لا في الذابح، فكأنه ملتحق بما لا يحل أكله، مادام متحصِّناً بالحرم.
فصل: جامعٌ في ملك المحرم في الصيد، دواماً، وابتداء، وما يتعلق به
2811- فنقول: أولاً- إذا اصطاد المحرم صيداً، فقد جنى على إحرامه، ولم يملكه وإن كان الاصطياد من أسباب الاكتساب.
واختلف قول الشافعي في أنه لو أحرم، وفي يده صيدٌ مملوك، فهل يلزمه رفْعُ اليد عنه أم لا؟ فقال في أحد القولين: لا يلزمه إرساله، بل يديم اليدَ عليه، وهذا كما أنه لا ينكِح ابتداء، ولكن النكاح الذي كان قبل الإحرام، فهو مستدام، لا يؤثر الإحرام في قطعه، وإنما المحرّم على المحرم الاصطيادُ، وقد شهد لذلك أن الأوّلين كانوا يُحرمون، وفي أقفاصهم في منازلهم الطيورُ، فلا يتعرضون لتقديم إرسالها، أو الأمر بذلك بعد الإحرام.
فإن قلنا: اليد مستدامة فالملك دائمٌ، ولو تلف ذلك الصيد تحت يده، لم يضمنه، ولكن ليس له قتله؛ فإنه كما ثبت على قطعٍ المنعُ من الاصطياد، ثبت أيضاً قطعاً المنع من قتل الصيد في الإحرام، فلو قتله، فداه، ولزمه جزاؤه.
وإن قلنا: يجب إرساله، فهل يزول ملكه؟ فعلى قولين:
أحدهما: يزول.
والثاني: لا يزول.
ثم اختلف الأصحاب في ابتداء التاريخ، فمنهم من قال: يزول بنفس الإحرام، ويلتحق الصيد في يده بالمباحات. ومنهم من قال: الإحرام يوجب عليه الإرسالَ، ثم إذا أرسل، زال ملكه.
ومن قال: الإحرام لا يتضمن زوال الملك، فالملك مستدام مادامت يده ثابتة على العدوان، فإذا ارتسم ما أمرناه به، وأرسله، فهل يزول الملك الآن؟
بنى شيخي هذا على وجهين لأصحابنا في أن من فتح باب قفص لطائرٍ، وحل الرباط عنه-وهو حلال- وحرره، فهل يزول الملك عنه؟ فيه اختلاف سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا أوجبنا الإرسالَ جرى في زوال الملك ما ذكرناه، وقطع غيره من الأئمة بأن الملك لا يزول إلا أن يقصد التحرير، فيخرج على الوجهين على أن الأصح أن التحرير لا يتضمن إزالة الملك.
2812- ومما يتعلق بالفصل أن المحرم لو اشترى صيداً، فهل يملكه؟ وهل يصح شراؤه؟ فعلى قولين منصوصين قَرِيبَي المأخذ، من شراء الكافر عبداً مسلماً. ولا شك أن القولين يتفرّعان على أن الإحرام لا يقطع دوام الملك، فإنا إذا كنا نحكم بأن الإحرام يقطع الدوام، فلا شك أنه يمنع الجَلْب على سبيل الابتداء. وسنذكر في كتاب البيع أنا وإن لم نصحح شراء الكافر العبدَ المسلمَ، نحكم بأنه لا يُمنع ثبوتُ الملك له من جهة الإرث في العبد المسلم. وكان شيخي يقطع بمثل هذا في الصيد، ويقول: يرث المحرم الصيدَ قولاً واحداًً. وفي شرائه إياه قولان. وهكذا ذكره الصيدلاني.
وقال العراقيون: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوامَ الملك، ففي الإرث وجهان:
أحدهما: أنه لا يفيد الملك؛ فإن الإرث مشبه بأستمرار الملك على الدوام، فإذا كان الإحرام ينافي الدوام، فكذلك ينافي الملك المستجد والمشبه بالدوام. والوجه الثاني- أن الملك يحصل بالإرث، ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فليجر ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال.
ولم يختلف أحد من العلماء في أن المحرم لا يملك بالاصطياد أصلاً؛ فإنه المحرّم المقصود بنهي الشارع، فلا يفيد الملكَ.
2813- ومما يتفرع على هذا الأصل أنا إذا أوجبنا على المحرم إرسال صيده، ورفعَ اليد عنه، فلو أدامها، ودام الصيدُ، حتى تحلّل المحرم، فالأمر بالإرسال قائم بعد التحلل عن الإحرام. ولكن لو قتله وهو محرم، ضمنه، ولو قتله بعد التحلل، فالمذهب أنه يضمنه؛ فإن الضمان والأمرَ بالإرسال مقترنان، والمتحلل في الصيد كالمتمسك بالإحرام. وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أن الضمان لا يجب، وهذا مزيّف مع القطع بوجوب الإرسال.
فهذا ما أردنا أن نبينه في ملك المحرم الصيدَ دواماً وابتداء.
فرع:
2814- إذا قلنا: للمحرم أن يشتري الصيدَ، ولو اشتراه ملكه، فله أن يبيعه أيضاًً وإن منعناه من الشراء، ولم نصححه منه، نمنعه من البيع أيضاً. وليس هذا كتصرف الكافر في العبد المسلم، فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم؛ والسبب فيه أن بيعه من المسلم يُزيل مادّة الاعتراض. وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنّا نبيعه عليه من مسلم، فإذا فعل مانفعله، نفذ.
والمقصود في الصيد الإرسال ورفعُ اليد عنه، والمحرم ببيعه يورّطه في التقييد والضبط، فكان البيعُ في معنى الشراء.
ولا شك أن كل ذلك يتفرع على أن الإحرام لا ينافي الملك في الصيد.
2815- ثم قال الأئمة: إذا باع المحرم صيداً أمرناه بإطلاقه، فإرساله مستحَق على المشتري، فإن استبعد الفقيه ذلك، فهو بمثابة تصحيحنا من المشتري شراءه، مع أمرنا إياه بالإرسال. ثم إذا أرسله المشتري بعدما قبضه، اتصل هذا بالتفريع في أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، ثم قُتل في يده بردّته، فهو في ضمانِ من؟ وفيه اختلاف. ولعل الأوجهَ القطعُ هاهنا بأن إرساله من ضمان البائع وجهاً واحداًً؛ فإنا قد نقول في المرتد إذا قتل: إنه قتل لردةٍ حالّة، والخطَرَات تتجدد، حالاً على حال.
والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال دائم، لا تجدد فيه.
ثم قال الأصحاب: لو تلف الصيد في يد المشتري، أو في يد من اشترى منه، وهكذا، كيف تناسخت الأيدي، فالضمان يجب على المحرم؛ فإنه المتسبب إلى إثبات هذه الأيدي. والسبب فيما يُضمن في اقتضاء الضمان كالمباشرة.
فرع:
2816- إذا قلنا: يجب على المحرم رفعُ اليد عن الصيد الذي كان في يده قبل الإحرام، فليسْع في ذلك، وأجمع الأئمة أنه لا يجب تقديم السعي على الإحرام، حتى نقول: ليحزِرْ الوقتَ الذي يوافي الأمرُ بالإرسال فيه أهلَه، ولْيقدِّر الإحرامَ بعده، بل يبتدئ ذلك بعد الإحرام، فلو لم يقصر ولم يؤخر، ولكن اتفق موت ذلك الصيد الذي هو تحت حكم يده، قبل اتصال الأمر بإرساله، فالمذهب وجوب الضمان. ومن أصحابنا من لم يضمّنه إذا لم يقصر.
فرع:
2817- المحرم إذا نفّر صيداً، فتطلّق، فهذا سبب منه قد يجر عليه ضماناً، فلو تطلق الصيد بتنفيره، ثم تعثر، وتكسر، وهلك، وجب الضمان. وقال الأئمة: المحرَّم المنَفَّر في عهدة تنفيره إلى أن يسكن الصيد، ويعود إلى ما كان عليه.
فلو هلك الصيد في نفاره لا بسبب النفار، ولكن بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لم يهلك بسببٍ من المحرم، ولم يهلك أيضاًً تحت يده. ومن أصحابنا من جعل دوام آثار النِّفار كاليد المضمّنة، وهذا بعيد عن القياس، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
فرع:
2818- إذا أرسل المحرم كلباً ضارياً بالاصطياد، فاصطاد، ضمن المحرم. وكذلك لو أرسل جارحةً من جوارح الطير، ولا يتوقف وجوب الضمان على الإغراء، بل يكفي رفعُ الرباط.
ولو أغرى سبعاً بإنسان في متسع من الأرض، فسنذكر أنه إذا قتل السبعُ ذلك الإنسانَ، فلا ضمان على المغري. والفارق أن السباع لا تضرَى بالناس ضراوتها بالصيود، حتى قال أصحابنا: لو فرضت الضراوة بالإنسان في بعض السباع، وجب الضمان.
ولو أرسل جارحةً، ولا صيد بالحضرة، ثم بدا صيدٌ، فقد ذكر الأئمة وجوبَ الضمان. وترددوا فيه إذا انحل الرباط عنها، حيث ينتسب المحرم إلى التقصير في ضبطها.
والمتبع في هذا الأصلِ أنا لا نقف وجوبَ الضمان على بلوغ الأمر مبلغاً يكون المحرم صائداً فيه؛ فإن الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء والإيساد....، وذلك ليس شرطاًً في الضمان، فرفع الرباط كاف، وفي التقصير ما ذكرناه من التردد.
ولو أفلتت الجارحة من غير تقصير، فالأظهر أن لا ضمان إذا أخذت صيداً.
فرع:
2819- إذا كان بين رجلين صيد مشترك، فأحرم أحدهما دون الثاني، وقلنا: يجب على المحرم أن يرسل الصيد الذي كان تحت يده قبل الإحرام، فالإرسال غيرُ ممكن والصيد مشترك. فأقصى ما يتكلفه أن يرفع يد نفسه عنه، ولم يوجب الأصحاب عليه السعيَ في تحصيل الملك في نصيب الشريك، حتى إذا حصل أطلقه، ولكن ترددوا في أنه لو تلف هل يجب الضمان في حصته؛ من جهة أنه لم يتأت منه الوفاء بالإطلاق على ما ينبغي.
فصل:
2820- لا يجوز التعرض لصيد الحرم: حرم مكة، وإذا أتلفه المتلف، ضمنه، وإن كان حلالاً. ثم الصيد الحرمي يُضمن بما يَضمن به المحرم، كما تقدم، وللصوم مدخل في جزاء صيد الحرم عندنا، خلافاً لأبي حنيفة. ومذهبنا أن سبيل صيد الحرم كسبيل الصيد في حق المحرم، في كل تفصيل.
ثم يثبت الحظر و عهدته بسببين:
أحدهما: بكون الصائد في الحرم، والآخر- بكون الصيد في الحرم. فلو رمى حلالٌ من الحِل صيداً في الحرم، ضمنه، وهذا ظاهر من جهة الصيد بالحرم، ولو وقف في الحرم ورمى صيداً في الحل، وجب الضمان، ولم يختلف الأئمة فيه، فالاصطياد في الحرم، كالاصطياد من الحرم.
ولو رمى سهماً، وكان في الحل، والصيد في الحل، فخرق السهم في مروقه وممره هواءَ طرفٍ من الحرم، ثم أصاب صيداً في الحل، ففي وجوب الضمان وجهان؛ لمكان اتصال السهم بالحرم.
ولو أرسل الحلال كلباً إلى صيدٍ في الحل، فلم يزل الصيد يروغ هارباً، حتى دخل الحرم، واتّبعه الكلب، فقد قال الأئمة: لا ضمان والحالة هذه، لأن موقفه وموقف الصيد كانا في الحل، ثم ما حدث من تحوّل الصيد إلى الحرم أمرٌ، لم يكن حالة وقوع الفعل، والكلب حيوان ذو اختيار؛ فإذا دخل الحرم أضيف ذلك إليه.
ولو علم أن الصيد إذا هرب، فلا ممر له إلاّ الحرم، فأرسل الكلبَ والحالةُ هذه، فدخل الصيد الحرمَ، وجرى الأمر كما ذكرناه، وجب الضمان. ولو كان الأمر كذلك، ولم يعلمه الصائد، فالأمر كذلك فيما يتعلق بالضمان، ولكنه لا يأثم.
وأسباب الضمان في المتلفات لا تختلف بالعمد والخطأ. وقد ذكرنا أنا إن فرقنا بين الناسي والعامد في الطيب واللباس، فلا فرق في الإتلافات، وذكرنا فيه قولاً آخر، وقد وجدتُ قولاً محكيّاً عن حَرْملة، عن الشافعي: أنا نعذر متلف الصيد بما نعذر به المتطيّب. وهذا فيما أظنه في حق المحرم.
فأما الصيد الحرميّ، فيجب القطع فيه بوجوب الضمان، فإنه ليس يضمن لعبادة، حتى يُقضَى بأن النسيان يؤثر فيها، فليُضمن الصيد الحرمي ضمان أموال الناس، في الغصوب والعواري.
2821- ونص الشافعي على مسألتين، فقال: لو اصطاد الحلال حمامة في الحل، وكان لها فرخٌ في الحرم، فضاع الفرخ بهذا السبب، وجب الضمان، وهو في حكم الرمي من الحل إلى الحرم. وقال: لو أخذ حمامةً في الحرم، ولها فرخ في الحل، ضمن الحمامة وفرخَها: أما الحمامة، فمأخوذة في الحرم، وأما ضمان الفرخ، فسببه يضاهي الرمي من الحرم إلى الحل.
ولو نفّر صيداً حرمياً، فقد تعرض للعهدة، فلو استمر النفار، حتى خرج من الحرم، وتكسر في الحل، وجب الضمان، بلا خلاف. ثم قال الأئمة: يدومُ التعرض للعُهدة، حتى يسكن نِفاره، كما قدمناه في حق المحرم. قال الصيدلانيّ: حتى يعود إلى الحرم. وهذا أراه زلّة؛ فليس عليه أن يسعى في ردّه إلى الحرم، ولا يتعرض بسبب خروجه للضمان.
ولو قتل المحرم صيداً حرمياً، لم يتضعّف الضمان، وإن تعدد سببه.
ولو أدخل الحرمَ صيداً مملوكاً، لم يتحرم الصيد بالحرم، وكان حكمه في حق مالكه حكمَ بهيمةٍ من النّعم، خلافاً لأبي حنيفة. والإحرام في هذه الخصلة آكد من الحرم، فإن طريانَ الإحرام على الصيد المملوك يقْصُِر يدَ المالك عنه، والكلام في وجوب الإرسال، وزوال الملك في الحرم لا يؤثر عندنا كما ذكرنا.
فهذا قولنا في صيد الحرم.
2822- فأما أشجارها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح: «لا يُعْضَدُ شجرُها، ولا ينفّر صيدُها، ولا يختلى خلاها، ولا تحِل لقطتُها، إلا لمنشد»، فلم يختلف علماؤنا في أن الأشجار الحَرَمية، كما سنصفها يحرمُ عضدُها والتعرضُ لها، بما ينقُصُها.
ثم ظاهر المذهب أن الأشجار الحرمية إذا عُضِدَت ضُمنت.
2823- والكلام في فصولٍ: أحدها: في صفات الأشجار المضمونة.
فالذي رأيت طرق الأصحاب عليه أن المضمون هي الأشجار البريّة، التي تنبت بأنفسها من غير قصد آدمي، فأما الأشجار المثمرة التي ينبتها الناس، فلا ضمان فيها، والبرّيات مشبهة بالصيود، والأشجار المستنبتة مشبهة بالنَّعم. ثم المثمرة منها كالنخيل والكروم وغيرها، وغير المثمرة: كالصنوبر، والعَرْعَرْ، والفِرْصاد والخِلاف. والأشجار البرّية كالعوسج، والطَرفاء، والأراك، والعَضاة. ونحوها.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن الأشجار البرية إذا استنبتت، فهي مضمونة بجنسها، والأشجار التي تستنبت لو نبتت بأنفسها وفاقاً، لم تضمن لجنسها. وقال صاحب التلخيص: الاعتبار بالقصد، لا بالجنس، فما استنبت، لم يُضمن، وما نبت بنفسه، ضُمن، من غير نظر إلى الجنس.
قال أئمتنا: لا خلاف أن من أدخل نواةً الحرم، أو قضيباً حِلِّياً وغرسه في الحرم، فَعَلِق وبَسَق، لم يصر شجرةً حرمية، وسبيلها سبيلُ الصيد المملوك يدخل الحرم. ولو أخرج قضيباً حرمياً من الحرم، وغرسه في الحل، فهو شجرةٌ حرمية نظراً إلى أصلها.
وهذا فيه تردد عندي ظاهر.
وابن القاص إذا كان يعتبر القصدَ، فلا يثبت الحرمة لهذه الشجرة في الحرم؛ من جهة تعلق القصد بها، فما الظن إذا غرست في الحل؟
فهذا قولنا في أجناس الأشجار.
2824- ثم قال الشافعي: في الدوحة الكبيرة الحرمية بقرةٌ، وفي التي تقصر عنها شاةٌ. قال: قلته تقليداً لابن الزبير.
وللشافعي قول في القديم مشهور: إن الأشجار الحرمية لا تُضمن أصلاً، وإنما يُضمن ذو روح، وليس في الأشجار إلا تحريمُ العضدِ، والتنقيصِ، كما ذكرناه.
ثم إذا فرعنا على ظاهر المذهب، فالجريان على مذهب ابن الزبير، ففي الشجرة الكبيرة التي هي من أكبر أشجار الحرم بقرة، ولم يقع التعرض للبدَنة، ولكنا لا نشك أن البدنة في معنى البقرة.
وأما إيجاب الشاة، فليس في الشجرة الصغيرة، التي فيها الشاة ضبط يُهتدى إليه.
ولعل أقربَ قولٍ فيه أن تكون قريبةً من جنس الكبار، والشاةُ من البقرة سُبعها، فليَعتبر المعتبر هذا التقريب، بين الدوحة، وبين شجرة الشاة. وإن كانت صغيرةً جداً، فالقيمةُ مصروفةٌ إلى الطعام. ثم الصيامُ معدَّل بالطعام، كما ذكرناه في الصيد.
وكما لا تعضد أشجار الحرم لا يختلى خلاها. وحشيشها مضمون بالقيمة، إذا اختليت، كما ذكرناه في الأشجار الصغار.
2825- وأما البهائم، فإنها ترسل حتى ترعى من رعْي الحرم وكلئه. وقال بعضُ علمائنا: سبب المنع من الاحتشاش والاختلاء توفير المراعي للبهائم والصيود الراتعة، واختلف أصحابنا في أن من اختلى واحتش ليعلف بهائمه، فهل يحرم ذلك؟ فمنهم من قال: لا تحريم، ولا ضمان، وإنما يحرم الاختلاء للبيع، وغيره من الأغراض، سوى العلف.
ومن أئمتنا من حرم الاختلاء مطلقاً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يختلى خلاها» والوجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الإذخر من حشيش الحرم، وجوّز قطعَه، والحديث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يختلى خلاها» قال العباس: إلا الإذخر، فإنها لقبورنا، وبيوتنا، وقُيُوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلا الإذخر».
فلو مست الحاجة إلى شيء من كلأ الحرم في دواء. فهل يجوز قطعه؛ تشبيهاً بالإذخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
2826- ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن قطع أشجار حرم المدينة، والاصطياد فيه، وقال: "حرمت ما بين لابتيها " فيحرم التعرض لصيد المدينة، وشجرها، ثم إذا وقع التعرض، فمن أصحابنا من قال: لا ضمان أصلاً، وإنما الفاعل عاصٍ. ومنهم من قال: يجب الضمان.
ثم قد ورد أن من تعرض للصيد سُلبت ثيابه، ثم ما حكم سَلَبه؟ اختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال: هو للسالب، لما روي أن سعداً رضي الله عنه سلب ثيابَ إنسان، اصطاد في حرم المدينة، فبعث إليه الوالي في ردّه، فقال: "ما كنت لأرد شيئاً نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن أصحابنا من قال: هو موضوع في بيت المال، وسبيله سبيل السهم المُرْصَدِ للمصالح.
وذكر العراقيون وجهاً آخر: أنه يفرق السلب على محاويج المدينة، قاطنين كانوا أو عابرين، على قياس جزاء صيدِ الحرم.
وذكر بعض أصحابنا أن الواجب في صيد المدينةِ، وشجرِها، كالواجب في حرم مكة.
2827- ومما يتعلق بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيد وَجّ الطائف، وعضَدِ شجرِها، والتعرض لكلئها. قال صاحب التلخيص: من فعل شيئاً من ذلك أدبه الحاكم، ولم يلزمه شيء، قلته تخريجاً. قال الشيخ: التحريم في وَج متردد، فلعله كراهية، فإن ثبت التحريم، فالضمان محتمل، ثم سبيله إن ثبت الضمان، كسبيل المدينة.
والذي اشتهر من قول الأصحاب نفيُ الضمان؛ فإن إثباتَه من غير ثَبَتٍ بعيدٌ، وهذا هو الذي قطع به الأئمة في الطرق وإنما ترددوا في التحريم، والكراهية.
2828- ثم قال ابن القاص: والنَّقيع حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد تحريمَ صيده، ولكن قصد منعَ كلئه من غير الجهات التي عيّنها. وقيل: كان حماه للصدقات. ثم قال: ومن تعرض لحشيش النقيع فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
أظهرهما الضمان. ثم يضمن بالقيمة، ولا سَلَبَ، كما تقدم في المدينة، ومنهم من قال: لا ضمان أصلاً. وأشجار النقيع هل تحرم كما يحرم الحشيش، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ:
أحدهما: أنه لا يحرم كما لا يحرم الصيد؛ فإن النقيع إنما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان كلئه وحشيشه.
فرع:
2829- إذا أبحنا السَّلَبَ في حرم المدينة، فالمعني بالسَّلَب الثيابُ، ولا ينحو بهذا نحو سلب القتيل في الجهاد.
ولو كان مع المسلوب شيء، من جنس الحلي فهل هو من جملة ما يسلب؟
اختلف أصحابنا فيه. ثم إذا كان يسلب فما عندي أنه يُفْصل بين صيد وصيد، وشجر وشجر، وكأن السلب في حكم المعاقبة للمتعاطي. وغالب ظني أن الذي يهمّ بالصيد لا يسلب حتى يصطاد، ولست أدري أيسلب إذا أرسل الصيدَ، أم ذلك إذا أُتلف؟ كل ذلك محتمل، ولا ثبَت معنا في توقيفٍ، ولا قياس.